فإن دين الله تعالى قائم على دعائم متينة منها النصيحة لعموم المسلمين كما جاء في حديث تميم بن أوس الداري t أن النبي r قال: (الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)([1]).
ومن وسائل أداء النصيحة سلوك المنهج النقدي في الرد على المخالفين في مسائل الاعتقاد, وقد قام العلماء بواجبهم، وسلكوا هذا المنهج في قمع أصول الباطل، فأدوا واجب النصيحة وقاموا به خير قيام.
وممن تميز من العلماء بسلوك منهج النقد للآراء العقدية المخالفة للعقيدة السلفية حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر المالكي القرطبي ت (463هـ) رحمه الله، وظهر صنيعه جلياً في ثنايا كتابه الماتع: {التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد}، والذي يعدّ موسوعة علمية شاملة في الحديث وأصوله والفقه وأصوله، وأنموذجا فذا في أسلوبه ومنهجه. رتبه المصنف بطريقة الإسناد على أسماء شيوخ الإمام مالك الذين روى عنهم ما في الموطأ من الأحاديث فذكر ما له عن كل شيخ مرتبا على حروف المعجم.
وقد اقتصر المؤلف فيه على ما ورد عن الرسول r من الحديث متصِلاً أو منقطعاً أو موقوفاً أو مرسلاً دون ما في الموطأ من الآراء والآثار، فقد أفردها في كتابه {الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار في ما نظمه الموطأ من معاني الرأي والآثار}.
ومع ما شمله من أحكام كثيرة ففيه أيضاً الحديث عن الآداب الشرعية والمسائل الأصولية ونقد ما يستحق النقد منها. ومن أهم ما قرره في كتابه عند شرحه أحاديث الموطأ إيضاح عقيدة السلف الصالح والرد على المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة في أمور المعتقد([2])، فهو بحق كتاب مهم لطلاب العلم في سائر العلوم الشرعية ولا غنى لأحد عنه.
وقد قضى -رحمه الله- في تأليف كتاب التمهيد أكثر من ثلاثين سنة([3]) يديم النظر ويعيد حتى خرج بهذا الشكل المرتضى. وهذا ما يدل على أهمية الكتاب وقيمته العلمية، لذا توجهت الهمة إلى دراسة منهجه النقدي للآراء العقدية المخالفة وللمخالفين في مسائل الاعتقاد من خلال كتابه التمهيد.
وهذا المنهج الذي سلكه ابن عبد البر منهج عتيق لم يخترعه رحمه الله، بل منشؤه في عهد النبوة والصحابة والتابعين وسار عليه أئمة الإسلام إلى عصرنا الحاضر.
فقد بدأ النقد في عهد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. ومثاله ما ورد في حديث عائشة t قالت: قال النبي r: (ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه)([4]).
وكان هذا العمل في نطاق ضيق لما كان عليه الصحابة y من الضبط والإتقان.
وفي عهد الصحابة y توسع ميدان النقد بقصد الحيطة والحذر والحفاظ على السنة النبوية المطهرة ومن الأمثلة على ذلك:
قول الحافظ الذهبي عن أبي بكر الصديق t: «وكان أول من احتاط في قبول الأخبار»([5]).
وقال عنه أيضا: «وإليه المنتهى في التحري وفي القول وفي القبول»([6]).
وقال في ترجمة عمر t: «وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل»([7]).
وقال ابن حبان: «إن عمر وعليا كانا أول من فتشا عن الرجال وبحثا عن النقل في الأخبار»([8]).
ولا تعارض بين كلام الذهبي عن أبي بكر الصديق t وكلام ابن حبان هنا، فإن أوليّة أبي بكرt ثابتة في ميدان النقد ,أمّا التوسع في هذا الباب فقد وجد في عهد عمر وعلي رضي الله عنهما([9]).
أما التابعون فإنهم ساروا على منوال الصحابة y في نقد ما يحتاج إلى نقد:
قال ابن حبان: «ثم أخذ مسلكهم – أي الصحابة – واستن بسنتهم واهتدى بهديهم فيما استنوا من التيقظ في الروايات جماعة من أهل المدينة من سادات التابعين منهم سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد([10]) بن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر([11])... فجدوا في حفظ السنن والرحلة فيها والتفتيش عنها والتفقه فيها ولزوم الدين ودعوة المسلمين»([12]).
ولأهمية ما سبق فقد توجهت الهمة إلى دراسة منهج ابن عبد البر في النقد العقدي فيما يراه مخالفا لمنهج السلف من خلال كتابه التمهيد معتمداً على الطبعة التي عنيت وزارة الأوقاف المغربية بمشروع تحقيقها وتقع في ست وعشرين مجلدا.
وقد اتبعت في كتابة هذا البحث المنهج الاستقرائي وكذا المنهج الوصفي التحليلي الذي يقوم على التتبع وينتهي باستخلاص النتائج والأحكام.
([1]) أخرجه مسلم في صحيحه, كتاب الإيمان, باب بيان أن الدين النصيحة ح(55).
([2]) انظر على سبيل المثال: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر 7/157، 158، 18/15، 19/14.
([3]) انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض 4/809.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه ,كتاب الأدب, باب ما يجوز من الظن ح(6068).
([5]) تذكرة الحفاظ، للذهبي 1/2.
([8]) المجروحين، لابن حبان 1/36، 37.
([9]) أصول منهج النقد عند أهل الحديث للبشير ص 11.
([10]) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة قال أيوب: ما رأيت أفضل منه من كبار الثالثة مات سنة ست ومائة على الصحيح. تقريب التهذيب، لابن حجر ص 794.
([11]) سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي أبو عمر أو أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة. وكان ثبتاً عابداً فاضلا كان يشبه بأبيه في الهدي والسمت من كبار الثالثة مات في آخر سنة ست على الصحيح. التقريب، لابن حجر ص 360.