الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
وبعد :"فإنَّ الله I عَلِمَ ما عليه بنو آدم من كثرة الاختلاف والافتراق، وتباين العقول والأخلاق؛ حيث خُلِقُوا من طبائع ذات تنافر، وابتُلوا بتشعُّب الأفكار والخواطر ، فبَعَثَ الله الرسل مبشِّرين ومنذرين، ومبيّنين للإنسان ما يُضلّه ويهديه ، وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النَّاس فيما اختلفوا فيه" ([1]) .
وبعث الله نبيِّنا محمَّدًا r بالهدى ودين الحقّ بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً مُنيراً. أرسله ربُّه U على حين فترةٍ من الرسل، ودروس من الكتب؛ حين حُرِّف الكَلِم، وبدِّلت الشرائع، واستند كلّ قومٍ إلى أهوائهم وآرائهم، ليُخرج النَّاس من الظلمات إلى النُّور. فأشرقت الأرض برسالته r بعد ظلمتها، وتألَّفت بها القلوب بعد شتاتها وتفرُّقها، وفُرِّق بين الحقّ والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيّ، والصدق والكذب، والمعروف والمنكر، وطريق أولياء الله السعداء وأعداء الله الأشقياء. ولم يمت رسولنا r حتى بيَّن للنَّاس جميع ما يحتاجون إليه، فتركهم على مثل البيضاء ليلُها كنهارها ، لا يزيغ بعده عنها إلا هالك([2]) .
واعتصم أصحابه r من بعده بكتاب ربِّهم ، وسنَّة نبيِّهم ، فكان ذلك حائلاً بينهم وبين الوقوع في التنازع والتفرُّق المذموم .
ثمَّ بدأت البدع بالظهور ، واشرأبَّت رؤوس أصحابها ، وظهرت الفرق المخالفة للكتاب والسنَّة ، تصديقاً لخبر المعصوم r الذي أخبر عن تفرُّق أُمَّته([3]) .
وقد أورد أصحابُ هذه الفرق المُحدَثة على النَّاس شبهات، بكلمات متشابهات، خدعوا بها جُهَّال النَّاس ، فأوقعوا الكثير منهم في حبائلهم .
ولم يقف علماء الأمَّة من هذه الفرق موقف المتفرِّج ، بل أخذوا يُظهرون عوارها، ويُبيِّنون ضلال أصحابها، ويدعون الضالّ التائه إلى الهدى ، ويصبرون من المخالفين لهم على الأذى، ويُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهل العمى .
وتتابعت الفرق المحدَثة بالظهور ، وأخذت المذاهب الهدَّامة ، والتيارات الإلحادية تغزو بلاد المسلمين في عقر دارهم ، لا سيّما في هذا العصر الذي تكالبت فيه الأمم وتداعت الشعوب -من كلّ حدبٍ وصوبٍ- على المسلمين .
ومن هنا برزت أهميَّة دراسة تلك الفرق والتيارات ، ومعرفة أخطارها على أمَّة محمَّد r ، بل على البشرية جمعاء .
فأعداء المسلمين يعملون على نشر الأفكار، والاتجاهات، والمذاهب، والديانات الباطلة بين المسلمين. والمسلمون إن لم يُبصَّروا بهذا كلِّه، ويعلموا ما يدور حولهم، ويُخطَّط لهم ، ويُنشَر بينهم من الآراء والاتجاهات الضالَّة ، وإن لم يُعطوا العلاج الناجع المتمثِّل في العقيدة الصافية التي تُحصّنهم ـ بإذن الله ـ مـمَّا يُخالفها ، يُخشى عليهم أن يقعوا في شباك أعدائهم ، فيخسروا دينهم ودنياهم .
وما هذا البحث إلاَّ محاولة ـ من محاولات كثيرة ـ لتنبيه المسلمين ، وتبصيرهم بمعتقدات أعدائهم .
والحديث عن موقف فرق الباطنيَّة من اليوم الآخر، يستلزم بيان منزلة الإيمان باليوم الآخر من دين الإسلام، مع التعريف بالباطنية، وبيان ضررها على الإسلام والمسلمين .
([1]) من مقدِّمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لكتاب: تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل ـ كما في العقود الدرية لابن عبد الهادي ص 29-30 ـ .
([2]) يقول r:"تركتكم على مثل البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك". والحديث صحيح –كما قال الشيخ الألباني / في تعليقه على كتاب السنة لابن أبي عاصم-، أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنَّة 1/27. وابن ماجه في السنن 1/16. وأحمد في المسند 4/126. والحاكم في المستدرك 1/96.
([3]) كما في حديث معاوية رضي الله عنه ، قال : ألا إنَّ رسول الله خ قام فينا فقال : " ألا إنَّ مَنْ قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة ، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين؛ ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنَّة؛ وهي الجماعة" .. الحديث أخرجه أبو داود في السنن 5/5، كتاب السنَّة، باب شرح السنَّة، حديث 4597. وأحمد في المسند 4/102، مسند الشاميّين، ح 16329. والحاكم في المستدرك 1/128، كتاب العلم، وقال بعدما ساق هذا الحديث، وحديث أبي هريرة : "هذه أسانيد تُقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث". ووافقه الذهبي .