وقد استحكم هذا وزاد في هذا الزمن زمن العولمة, العولمة: التي كثر التأليف فيها باللغة العربية أو اللغات الأخرى, وأصبحت هذه الكلمة مفردة شهيرة وشائعة في الأوساط الثقافية والإعلامية في السنوات القليلة الماضية, وعند التأمل في تلك الكتب وتعريفها للعولمة نجد أن كل مجموعة منها تنظر إلى هذه العولمة حسب ما تعالجه ففريق يعالجها اقتصادياً, وفريق يرى سيطرتها على العالم سياسياً, وثالث يراها ثقافياً ودينياً, وعلى كل حال فالأظهر أن العولمة نظام عالمي جديد يقوم على الثورة المعلوماتية والإبداع التقني غير المحدود الشامل لجميع مناحي الحياة, دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيم والحدود الجغرافية والسياسية القائمة في العالم([1]).
وإن كان يشتد الخطب ويعظم الأمر عندما تسعى العولمة لإبعاد الناس عن هويتهم وثقافتهم وهذا ما يتضح جلياً في عصرنا الحاضر إذ إن العولمة لها أثرٌ بالغ يكمن في أنّها تؤدي إلى خلط المفاهيم، وتحريف العقائد، وإلغاء الشرائع, ولقد تركت بصماتها واضحةً على كثيرٍ من أبناء المسلمين، فأثَّرت على عقائدهم، وزعزعت قيمهم، وزهدتهم في دينهم وتشريعاته وأحكامه.
فإذا فقدت الأمة الهدف والانتماء، تحولت إلى طاقات مبعثرة، تُبدد في فراغ، وتستهلك في غير المواقع الصحيحة، وتنتهي إلى الحيرة والقلق والتمزق والعدمية، وعاشت حالةً من الضياع تُسهل على الأعداء احتلال نفسها وعقلها وروحها وأرضها.
والعقيدة في ذلك كله هي الأساس فإذا فُقدت العقيدة، فلا تطيب للأمة حياة، ولا يستقيم لها أمر، بل يجذبها التيار حيث سار؛ فهي متشددة طوراً، ومترددة مرة، ومتبددة أخرى، وقد يتشاجر الكتاب في السابق بين مؤيد ومعارض للعولمة هل هي حق أم هي باطل؟ ولكن اليوم اتضحت الصور وتبينت الأهداف فعامة الشعوب التي تهتم بثقافتها وتحافظ عليها تجزم أن العولمة ضررٌ محض, فهي تدعو إلى الهيمنة على اقتصاديات العالم, والتحكم في مركز القرار السياسي وصناعته, كما تدعو إلى إلغاء النسيج الحضاري والاجتماعي والثقافي للشعوب, كل ذلك لمصالح الدول الأقوى لتزداد قوة إلى قوتها, ولتهلك الدول الأضعف وتزداد ضعفاً في جميع مناحي الحياة إلى ضعفها([2]).
وهذه الأهداف وان كانت غير واضحة في بداية العولمة, إلا أنها أخذت تتضح شيئاً فشيئاً, وتمزقت تلك الأستار التي كانت تتوارى بها, فأصبح كل واعٍ مدرك يرى جلياً آثار العولمة وسلبياتها([3]).
ومما سبق يتضح أن كل مستعمر بمفهوم الاستعمار الجديد في ظل العولمة لا بد له من تحطيم مقومات المجتمع الأصلي من ثوابت ومبادئ وقيم, ثم استحداث مجتمع آخر يحمل الرؤى الحضارية نفسها لذلك المستعمر؛ وذلك لأن الهيمنة الكاملة غير ممكنة ما لم تحطم المقومات العقدية والحضارية, وتحل محلها مقومات التبعية من خلال إقامة المجتمع التابع, الناظر للغرب بأنه القدوة ومحل القرار([4]).
ومما لا ريب فيه أن المخرج من هذه التبعية التي تكرسها العولمة يوماً بعد يوم هو الإسلام، فالإسلام هو البديل للحضارة الغربية وهو الدين العالمي الصالح لكل زمان وكل مكان.
فلا بد من الوعي بالهوية الإسلامية, وتحصين العقل المسلم من الاختراق الثقافي والاستلاب الفكري في مجال القيم والمبادئ, والأصول الثابتة التي لا غنى عنها في مواجهة خطط تذويب الذات, وتدمير البنية التحتية العقائدية والفكرية التي تحفظ للأمة تحصينها واستقلالها.
([1]) انظر: العولمة ماهيتها ونشأتها ص7, 13.
([2]) انظر: مجلة آفاق عربية عدد 3 أيار 1997.
([3]) انظر: العولمة بين منظورين مجله البيان العدد 145, والعولمة الغربية والصحوة الإسلامية ص 115, والعولمة الاقتصادية ص 98, ولمزيد بيان في تعريف العولمة ومجالاتها انظر: صراع الأمم بين العولمة والديمقراطية ص28, 51, ومخاطر العولمة على الهوية الثقافيةص10, 13, وما العولمة؟ ص46, والعولمة والثقافة العربية ص116, والحضور والمثاقفة ص111-114.
([4]) انظر: العولمة الاقتصادية ص 97, وانظر لمزيد بيان: العولمة الغربية والصحوة الإسلامية ص71, والعولمة أم عالمية الشريعة الإسلامية ص55.